روح البحث

الثلاثاء، 30 سبتمبر 2014

مشهد من الذاكرة!

مشهد لا تخطئه ذاكرتي.. فكيف بذاكرتها!!
ولا تفتر مشاعره .. مازال حيا طازجا مؤلما في عميق ذاكرتي ليطفو احيانا ويغرق تارة ثم يطفو فارضا وجوده الازلي وممددا جذوره الدفينة بخلايا ذكرياتي!
كان التوقيت هو الفسحة في يوم من أيام الصيف في بدايات التسعينيات من القرن المنصرم  .. نزلت مع صديقتي جولجان وسلمى الى الساحة لتناول وجبة افطارنا.. فتفاجأنا بفتاة ترتدي الزي الرمادي مم يعني انها في المرحلة الاعدادية وكانت مدرستنا ايامها تضم طالبات الصف السادس الابتدائي حتى الثالث الاعدادي.
كانت الفتاة تحمل لوحة كبيرة في يدها مكتوب عليها (أنا حمارة)!!!
لكم ان تتخيلوا الرعب الذي داخل قلوبنا.. لكم ان تتخيلوا مدى الصدمة والذهول.. فتاة تتوسط ساحة المدرسة في وقت الفسحة لتتعرض لهذا العقاب النفسي الأليم!!
لم نتجرأ ان نسالها ماذا فعلت كي تحظي بهذه الحفاوة الاستثنائية!!
كانت هي المرة الاولى التي اشهد فيها هذه الحالة!!
ولكن ظلت راسخة في ذاكرتي فتاة في مرحلة المراهقة تحرم من وجبة افطارها في الفسحة لكي تقف في وسط الساحة في ساعة الذروة لتحقيق اكبر عدد من الفرجة تحمل نعتا ووسما بشعا!!
لم نستطع ان نزدرد طعامنا.. ولم نستطع ان نفعل شيئا سوى الانزواء الى الظل مطرقات دون ان نتكلم!!


الاثنين، 1 سبتمبر 2014

هل رأيت وجهك!



دلفت لتستوقفها هنيهة دهشة خرزات الكريستال الأرجوانية المعلقة على مدخل الباب ثم مالبثت أن ألقت السلام، لم تكن كعادتها من البشاشة وهي تجتاز الفراشات الكريستالية العالقة في هذه الستارة الجديدة، كان التلفاز يصدح بأغنية بوليودية رديئة، وضعت حقيبة يدها التي اشترتها مؤخرا من مونسون على الطاولة الكبيرة الممدودة أمامها التي تحمل شتى أشكال أدوات التجميل الرخيصة والرديئة مم خلق منظرا نافرا بالطبقية!
 أسلمت رأسها للمقعد الجلدي المستعمل الذي تم تغييره مؤخرا بعد احالة المقاعد الهزيلة التي كانت تطعن خواصر الزبونات الى التقاعد!
تحاول صاحبة الصالون جاهدة أن تنافس صالون أمل المغربية الذي افتتح حديثا بالجوار والذي يتهدد رزقها كما تظن! لم تكن سايرة تعلم عن سر اخلاص عائشة ومثيلاتها من الزبونات لها.. هو دماثتها وتواضع امكانياتها مم يخنق أي لحظة ايجو قد تتشكل مستقبلا من أصحاب هذا الصالون المتواضع ولعل من الأسباب الكامنة أنه مكان جيد لممارسة الايجو الخاص بهن (عائشة ومثيلاتها) كلما قذفتهن الحياة بعنجهيتها!
همست عائشة وهي تنظر الى الواقفة خلف المقعد الجديد نسبيا: كامل!
على غير عادتها لم تبدِ دهشتها حول التغييرات التي تصنعها صاحبة الصالون بكل همة بين فينة  وأخرى. كان مزاجها غائما ومنذرا بالصمت والكآبة.
تناهى اليها صوت صاحبة الصالون الحلو كاللدو[i]: كيسي هي آب[ii]؟
ردت: بلكل تيك هون.. أور تم[iii]!
لم تستطع عائشة يوما الخروج من الايجو التي تحكم في اخفائه بدماثتها.. فلم تقدرعلى رد مساير لسايرة خان بذات التوقير.. فاستخدمت ضمير المخاطب المباشر انت.. عوضا عن حضرتك التي تنعتها بها سايرة بكل تهذيب!
ردت سايرة هازة رأسها كعادة بني جلدتها بانبساط: الحمد لله تيك هون[iv].
 تسللت دمعة من زاوية عينها.. منحدرة الى وجنتها بمحاذاة أذنها.. في هذا المكان الذي يمتزج الفرح فيه بالألم.. لأمر اعتيادي أن ترى دموعا!
غير أن دموع عائشة ظلت تسح منها.. مما اضطرها ان تمسح جدول الدمع الرقراق الذي تشكل على زوايا وجنتيها بيدها إلا أن الجدول عاد الى الحياة من جديد ولم يكن لأحد أن يأبه.. رغم سحنة الحزن الطافية على وجهها كالغمام الشاحب الذي يغطي القمر معاندا اكتماله!
غمامة لم تكتفي بحجب الضوء بل منعت الصوت أيضا، أفاقت على تكرار صوت الشابة الهندية الناعم كالقميص البنجابي الذي ترتدية أن تدفع بلسانها أرنبة شفتها.. كي تستطيع حف شعر شنبها جيدا.. وانصاعت لها أخيرا.. كانت يدا شبانة تعملان بحماس في وجهها.. فعائشة هي زبونة مخلصة ليس للصالون وحسب بل لكل شيء يروجه هذا الصالون من مستحضرات تجميل وأعشاب وصابونات الى الاكسسوارات والملابس والعباءات. لذلك فقد اعتادت أن تحظى بعناية فريق الصالون ابتداء من صاحبة الصالون سايرة خان وانتهاء بشقيقاتها وقريبات زوجها والتي شبانة احداهن!
ولعل من أسباب حماسة شبانة هو قلة الزبونات لهذا اليوم، مم جعلها في كامل حيويتها وطاقتها. همست شبانة: اديري وجهك.
صوت خشن يصطرخ في ذاكرتها: هل رأيتِ وجهكِ!
أدارت وجهها لتنسكب دمعة اخرى..
أمسكي بجفنك..
بدأت بتهذيب حواجبها المقوسة.. أغمضت عينيها وهي تستشعر ببرودة المقص الصغير الذي تقص به شعر حواجبها الزائدة في الطول.. تذكرت والدها الذي اعتاد تشذيب الأغصان النافرة من أشجار حديقة المنزل!
هكذا اذن انتهت شبانة.. وقد احضرت مرآة صغيرة مع منديل ورقي.. لتنظر عائشة إن كانت راضية عن أدائها!
ولكن عائشة لم تعقب شيئا وهي تنظر الى انعكاس وجهها وقد اكتسب حمرة جراء النتف، بينما صوت يصطرخ في رأسها: هل رأيتِ وجهكِ في المرآة؟
حملقت مجددا، وجه حنطاوي مائل الى الاستدارة، وعينان عسليتان واسعتان، وشفاه ندية رغم غمامة الحزن !
ابتسمت أخيرا !  
فهمست شبانة بتودد: فيشل؟
هزت عائشة رأسها ايجابا..
انطلقت شبانة بخفة الى غرفة الفيشل لإعداد العدة.. بينما التفتت عائشة الى حقيبتها المتكومة عند زاوية الطاولة.. كانت سايرة خان تهدد ابنها المشاغب أفنان الذي لا ينفك عن التقاط أي شيء ليقتل به روتينه اليومي المقيت بين جدران هذا الصالون النسائي الزاهي كالهولي[v].
التفتت سايرة الى عائشة مشاغبة: خذي حقيبتك قبل ان أهجم عليها واخرج كل مافيها!
كانت هذه النكتة ستضحك عائشة في وقت آخر غير هذا فقد اعتادت على مشاغبات سايرة لها، فعائشة متحدثة جيدة للأردو مما جعل لها مكانة استثنائية في هذا الصالون الذي يحمل طابع مدينة مومباي بألوانه الصاخبة واكسسواراته الرخيصة ووردوه الصناعية الفاقعة التي تزين بها الزوايا!
ابتسمت عائشة: تم بي بورا بروساهي سايرة جان[vi]!
ضحكت سايرة وهي تحاول انتزاع مشط استله ابنها من على الطاولة فتلطخ المشط بالشوكولاته الذائبة في يده!
دلفت عائشة الى حجرة الفيشل وصوت التلفاز يلاحقها بأغنية بوليودية صاخبة .. وتمددت على السرير.. وحظيت بمساجات بكريمات وصابونات تقشير مختلفة على وجهها وقد عقد الصمت شفاهها على غير عادتها.
سمعت صوتا يتردد في حناياها: مابه وجهي ألم يعد يعجبك.. لستَ مجبرا على مصاحبة هذا الوجه بعد اليوم!
اللعنة!
صوت ارتطام باب
صوت واهن خنقته العبرات: عليك!
كانت عيناها مغمضتين وقطعتان من القطن البارد تغفوان عليهما بينما جهاز البخار ينفث بلهيبه في وجهها كتنين استفزه فارس مغامر.. فسمعت صوتا وقرقعة مم جعلها تجفل وتنادي: شبانة!
إلا ان الأصوات اشتدت.. دون اجابة!
كان أفنان يتجول بجوارها، طفقت على رأس عائشة صورة جريدة بمنشيت احتراق امرأة بجهاز البخار..ورفض زوجها اخذها الى بيتها خوفا على أطفاله من أمهم المشوهة!
شبانة .. شبانة..
لم يستجب لها سوى صوت التلفاز بأغنية صاخبة أخرى رديئة الذائقة من فيلم راجا بابو .. بك تشك بك راجا بابو!!
قهقهة تجلجل أسماعها: هل رأيتِ وجهك بالمرآة!!





[i] نوع من الحلوى على شكل كرة مصنوع من الدقيق والسكر ومنتشر في شبه القارة الهندية
[ii] كيف حال حضرتك؟
[iii] في أحسن حال وأنت؟
[iv] الحمد لله بخير
[v] مهرجان الألوان يحتفل به الهندوس بقدوم الربيع
[vi] أثق بك تماما عزيزتي