قالت الصحة: كل الناس يحبونني!
قال المرض: لولاي لما احبوك هذا الحب!
مصطفى
السباعي
بخطوات مرتعشة عبرت الممرات الباردة كألواح الثلج...اسرّة بيضاء تئن بأجساد مقيدة بالاسلاك ومرتهنة برنين الاجهزة...حاولت جاهدة الا تقع عيني على المحبوسين بين الحياة والموت!!لكن للاسف وصلتني صور سريعة اخترقت ذاكرتي واحرقتني بلهيب الوجع!صور المنفيين من علامات الحياة... المتخندقين خلف امل الخلاص.. المبعثرين على ارصفة الانتظار!الجامعين لاوراق حياتهم على ارض الشتات .. المغادرين فصول الحكاية.. المتأهبين للرحيل...المترقبين بتوجس لاخر محطات الحياة!"ركن العناية المركزة" ياللسخرية ! اية عناية مركزة هذه!ايعنون عناية الموت!على هذه الاسرّة لا تميز الغني من الفقير... الرفيع من الحقير..سواهم ذلك المرض وصفّهم ورصّهم على القطن الابيض بلا تمايز ! ياللمفارقة...ربما فقط في الاحزان تتساوى الانسانية !اما في عربدة العافية والافراح فلا مجال للتساوي! ايستوي الامير والغفير؟؟ مالكم كيف تحكمون!!اوصلتني الممرضة اليها!!
يالله!!!أهذه ابنة عمي !! كيف لسويعات من المرض ان تحيل تضاريس جسد بض الى كل هذه الهضاب الموحشة!اين ربيع عمر هذه الشابة ؟؟اين تبددت نضارة زهور احلامها اليافعة؟ما كل هذا الشحوب والضباب؟؟كيف تبدلت جغرافية ملامحها!!اهذه ملاكي "امل"!!!هطلت دموعي كالغيم ..تطفح بحنين على ارض قاحلة ...ارض الراحلين...ارض العبور الى الضفة الاخرى...ارض الذبول.. ارض المجهول!غابت عني الدنيا لوهلة من الذهول....حاولت ان ارفع يدي بأكف الدعاء..ولم افلح!السكون يفرض سطوته بقسوة مستمتعا بأنين اجهزة قياس النبض والتنفسّ. قشعريرة الموت تكتنفتني بعنف! ممررا شريط حياتها امامي ممتزجا بشريط حياتي ...كيف تمر ايام الدنيا والعافية بسرعة!طفولتنا و مشاكساتنا ووخزات زعلنا وبلسم تصالحنا ونسيم زياراتنا وغيوم ضحكاتنا وأهلة اعيادنا ومرافيء أحزاننا!مرت علي لحظاتي الغضبى ... حنقي على الظروف ..على المعيشة ..على الفقر..على القهر.. وكوابيسي الوطنية..تبعثرت كل خلجات نفسي .. زوبعة من الصور والافكار اجتاحتني بلمح البصر... حتى المعتقلين! غبطتهم وواسيتهم مهلوسة :انكم في نعمة امام هذه الحبسة المقيتة بين اضلاع الوهن والاعتقال الجائر للمرض!!تخيلت جميع المصائب فلم اجد ما يضاهي... هذا الاعدام البطيء لمعاني الحياة! يالعظم فداحة خسارة نعمة الحياة!!تذكرت ما تشدقت به من حروف وافكار وهرطقات وليالي الارق بهموم الوطن !وقلة شكري للواهب سبحانه...كم نحن متذمرون متأففون ناقمون جاحدون!!!!اتستحق الدنيا ان اسحق عمري وصحتي وفكري ..لماذا لا اعيش كقطة ليس همها سوى لقمتها وابناءها ومواءها!رفعت يدي بجهد ادعو لها بالشفاء العاجل وكلي يقين بالقادر القاهر..لمست يدها الواهنة المثقوبة بشتى انواع الابر ووخزات الالم...لثمتها بدمعي...وشيعتها بنظرة حانية ماسحة دمعة كانت تنحدر على خدها!هل رأيتني يا ابنة العم...هل سمعت ابتهالي وتضرعي هل شعرت بوجودي؟؟ داهمتني الممرضة بوقت الرحيل..وهكذا تمراللحظات كلمح البرق.. يمر شريط العمر وينقطع قبل بلوغه نهاية آمالنا!خرجت من تلك الغرفة المكفنة ببياض الصمت...وشحوب الحياة ..بيضاء السريرة !