خمسة اعوام...
ومازالت تلك اللحظات نابضة بالحياة في ذاكرتي وكأنها بالأمس...
كنت منهمكة في
اعداد الغداء لطفلي الصغيرين... توجست وأنا اسمع رنين هاتفي في هذا الوقت، كانت
الساعة تقتر ب من الواحدة ظهرا ..كانت شقيقتي على الخط... وبكل هلع رددت على
الهاتف..
كان صوتها وقورا..
تتذبذب كلماتها على مشاعر تحاول كتمها...
انت تؤمنين بقضاء
الله أليس كذلك...
هنا كاد كبدي ان
ينشطر.. وأنا اخشى ان تقول أبي!
صرخت لها وانفاسي
تتقطع وقلبي يكاد ينخلع مني: من؟
فقالت: أخونا
صرخت: لا لا لا
....
تأكدي أرجوك ربما
قد اغمي عليه ... لا لا لا لم يمت
هنا لم اسمع سوى
صوت انهيار شقيقتي بالبكاء!
***
لا اتذكر كيف
اغلقت الخط... كل ما أذكره انني كنت ارتدي عباءتي وطفلي الرضيع في حضني وطفلتي
الصغيرة آنذاك 4 سنوات تمسك بيدي.. وانا انتظر شقيقي الصغير ليقلني الى بيت ابي!
واجهتني حماتي لا
ادري ماذا قلت لها بالضبط: يقولون مات لكن ربما قد اغمي عليه سأذهب لأرى...
كنت اهذي ...فأخذت
طفلي الصغير من يدي وقالت: اين تأخذينه معك؟ دعيه هنا!
وهكذا سمعت صوت
بوق سيارة والدي خرجت صعدت السيارة مع طفلتي التي لم تتناول غداءها... كانت ملامح
اخي الاصغر اكبر دليل على صدق الخبر... لم اتمكن من الكلام ..جلست بجانبه كصنم...
كنت انتفس بصعوبة ترجلت من السيارة واظن ان اخواني وابناء عمومتي واعمامي قد بدأوا
بالتوافد.. كانوا بجانب الباب الكبير...دلفت البيت بسرعة... وهناك رأيت أبي واقفا
بشموخ امام هذه الفاجعة... كانت يداه خلف ظهره كعادته... رآني لم اقبل يده ورأسه
كعادتي... كانت يدي ترتعش ورجلاي بالكاد تحملاني: نظر امامه وقال بصوت يغالبه
الوجع: اذهبي الى اخوك واقرئي عليه شيئا من القرآن!
انصاعت حواسي لأمر
أبي... ودلفت البيت وطفلتي الصغيرة ممسكة بيدي.. تركت يدها وتوجهت الى غرفة نومه..
فتحت الباب... ياللهول هاهو مسجى ومغطى بلحافه حتى رأسه وشقيقاتي حوله يقرأن..
اعطتني شقيقتي قرآنا
وقالت: ماذا نقرأ عليه من القرآن..
قلت: يس..اقرأوا
قلب القرآن
كنا نتحلق حوله
ونقرأ.. احدى شقيقاتي كشفت عن وجهه... وقبلت جبينه... كنت كالمشلولة اقرأ القرآن
واتأمل وجهه الشاحب النائم، نظرت اليه انه لا يتنفس لا يختنق باللحاف الذي وضع على
وجهه صدره لا يرتفع ولا يهبط.. رئتاه ساكنتان ولكني لم اتجاسر ان اضع يدي على
قلبه!
جاءت بعد قليل أمي
التي كانت منهمكة في اعداد الطيب ومستلزمات الغسل .. وكأنها منهمكة لعرس ولدها...
وضعت سلة بها اشكال من العود والعطور بجانبه... أمرتنا: ادعوا لشقيقكم.. لا تفتر
ألسنتكم بالدعاء له.. نحن صامتات نحاول ان نؤخر لحظة الانهيار اكبر قدر ممكن
احتراما لجثمانه الذي مازال لينا.. وهي تهم بالخروج.. رأت يد شقيقي ممدودة بجانبه
وكفه مفتوحه نزلت ومسحت على كفه وهمست: كان سخيا باسطا يديه في حياته.. وهاهو يرحل
باسطا يديه ..لثمت أمي يده: بوركت بني حيا وميتا... وغادرت تغالب دموعها فور ان
جاءت احدى الجارات الفضوليات للتلصص على الجسد المسجى. لقد كانت امي كالطود في
تماسكها حتى تتم اجراءات جنازة اخي كما يجب!
ظللنا نقرأ وندعو
حتى حملوه للغسل... ولم نره بعدها.
يتبع
الفاتحة على روحك